وأجاب عيسى عليه السلام جوابًا فيه بسط وتقرير للحقيقة، إذ {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} (¬4). وقد صدّر جوابه بالقول بصيغة الماضي مع أن الحوار في يوم القيامة (¬5)؛ وذلك للدلالة على التقرير وتحقق الوقوع (¬6).
وقد نفى عليه السلام في جوابه ما اتّهم به على ابلغ وجه، إذ صدّره بهذا التركيب الإضافي {سُبْحَنَكَ}، والمضاف (سبحان) مشتق من ((السبح وهو الإبعاد في الأرض والذهاب)) (¬7) وأريد به في الاستعمال: التنزيه، أي تنزهت ياربّ. وكأنه عليه السلام أراد إبعاد نفسه عما نسب إليه، والمسارعة إلى التبرؤ المطلق (¬8)، الذي بالغ فيه بقوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}، إذ وقع النفي بالأداة (مَا) ((وهي مقيّدة للنفي على ابلغ وجه وآكده)) (¬9). ثم قال: {مَا يَكُونُ}، ولم يقل: لم اقله؛ لأن الأول ابلغ من الثاني. وقال {مَا لَيْسَ} ولم يقل: ما يحق لي؛ لظهور دلالة الأول على الاستمرار في انتفاء الحقيّة، فضلا عمَّا فيه من التأكيد، بالباء المطرد زيادتها في خبر ليس (¬10).
ثم يستدل عليه السلام على براءته بقوله: {إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}، فنفى عن نفسه ما اتّهم به بطريقة ذكية وهو انتفاء علم الله تعالى به، أي إن صدور هذا القول منتف بانتفاء العلم الإلهي بذلك (¬11).
وقد سلك عيسى عليه السلام في جوابه أسلوب الازدواج (¬12) و ((المشاكلة وهو من فصيح الكلام وبيّنه)) (¬13)، فقال مبرّئا ساحته: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}. ومعلوم أن الباري سبحانه لا نفس له، فهذا إذن من باب المجاز بالاستعارة (¬14).
¬__________
(¬1) تأويل مشكل القرآن /215، والتبيان في البيان / 97، والبرهان في علوم القرآن 3/ 375، وأساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين / 348.
(¬2) الكامل 2/ 85، والصاحبي / 293، ومعجم المصطلحات البلاغية وتطورها 1/ 186.
(¬3) مجمع البيان 3/ 268.
(¬4) سورة المائدة / 116 – 117.
(¬5) إعراب القرآن للنحاس 2/ 51، ومدارك التنزيل وحقائق التأويل 1/ 541.
(¬6) مجمع البيان 6/ 310، والبرهان في علوم القرآن 3/ 372، وروح المعاني 18/ 249.
(¬7) روح المعاني 7/ 65.
(¬8) في ظلال القرآن 2/ 1001.
(¬9) محاسن التأويل 5/ 1625.
(¬10) روح المعاني 7/ 65.
(¬11) نفسه 7/ 66.
(¬12) إعراب القرآن للنحاس 2/ 52.
(¬13) الكشاف 1/ 655.
(¬14) تلخيص البيان في مجازات القرآن /135.
