ويُلحظُ في جوابهم أنهم قالوا: (نكُ)، بحذفِ النون. وكان من الجائز أن يقولوا (نكن)، فيكونُ الجزمُ بالتسكين، غير أنهم اختاروا الحذفَ والاختصارَ تخفيفًا. وهذا أسلوبٌ معروفٌ في اللغةِ، استعملهُ القرآن في التعبير، وقد عُلِّلَ بكثرةِ الاستعمالِ (¬1)، فلا يخفى حذفها على السامع. وقيل فيه أيضًا: إنهُ واردٌ على ((نهجِ التنزيل في غرابة نظمه)) (¬2)، وقيل: إنَّ الحذف هنا ((إشارة إلى أنَّ المتكلِّمَ لا يقوى على إتمام كلامهِ، لما فيهِ من الضعفِ أو لرغبتهِ عن الحديث فيوجزُ في كلامهِ ما أمكنهُ ذلك)) (¬3). وفيه نظر؛ إذ وردت في غير هذا النوع من السياقِ في القرآن، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ} (¬4)، وقوله تعالى على لسان مريم عليها السلام: {ولمْ أكُ بغيًّا} (¬5)، وغير ذلك.
ويُلحظُ أن التعبيرَ الجوابي بدأ بالنفي (لم نكُ) مرَّتين، ثُمَّ الإثبات (كنَّا) مرّتين أيضًا. وهذا منَ بابِ التوازن في التراكيب.
ومن هذا قوله عظم شأنه مصوِّرًا ما دار بين أصحاب الجنة وأصحاب النار من حوار في مشهد من مشاهد يوم القيامة: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} (¬6).
وهو سؤال سخرية (¬7) وتحسير (¬8) وشماتة وإثارة لندمهم (¬9). فقد سألوه لا للإخبار والاستخبار وإنما قالوه ((اغتباطًا بحالهم، وشماتة بأصحاب النار وزيادة في غمهم)) (¬10)، واستشعارًا بألمهم وعذابهم.
ويصدر الجواب من أصحاب النار بكلمة واحدة فقط؛ إذ {قَالُوا نَعَمْ} (¬11).
وجوابهم هذا ((تحقيق للمسؤول عنه بـ (هَلْ)؛ لأن السؤال بـ (هَلْ) يتضمن ترجيح السائل وقوع المسؤول عنه، فهو جواب المقر المتحسر المعترف)) (¬12).
¬__________
(¬1) إعراب القرآن للنحاس 5/ 73.
(¬2) الكشاف 4/ 187.
(¬3) معاني النحو 1/ 249.
(¬4) سورة الأنفال / 53.
(¬5) سورة مريم / 20.
(¬6) سورة الأعراف / 44.
(¬7) أسلوب السخرية في القرآن الكريم / 371، وفي ظلال القرآن 3/ 1292.
(¬8) روح المعاني 8/ 122، وأسلوب الدعوة القرآنية / 143.
(¬9) التحرير والتنوير 9/ 136.
(¬10) الكشاف 2/ 80.
(¬11) سورة الأعراف / 44.
(¬12) التحرير والتنوير 9/ 137.