(15) ومن الظواهر أيضًا أن يرد الجواب على سبيل التخمين والظنّ، ثم يردف بتعبير مصلح لهذا الوهم الذي وقع في الجواب من المجيب. وسر ذلك قوله تعالى مصوِّرًا حال من أحب أن يريه الله إحياء أهل القرية وهي بيت المقدس، حين خرّبه بختنصر، إذ قال {أَنَّى يُحْيِي هَاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} (¬1).
فيلحظ أن جوابه كان بناءًا على الظن (¬2) والتخمين أو التقريب والاستقصار لمدة لبثه (¬3)، وهي مكثه (¬4)، إذ قال {يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}، فجاءه الجواب الدقيق من السائل ذاته حينما {قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} لا كما توهمتَ وخَمَّنتَ في التقدير.
ويلحظ ان في هذا التعبير الذي ورد مصلحًا لوهم المجيب حذفًا، إذ (بَلْ) هنا عاطفة لما بعدها على تعبير قبلها مقدر، هو ((ما لبثتَ ذلك القدر بل هذا المقدار)) (¬5).
(16) ومن الظواهر التعبيرية أيضًا، أن يرد الجواب محذوفًا، تدل عليه دلائل؛ إذ لا بد للحذف من ((قرينة تدل عليه، وإلا كان الحذف مؤديًا للخلل في المعنى، وهذا تأباه البلاغة، ويمجه الذوق العربي)) (¬6).
فمما ناب عن الجواب قرينة الحال، وهي الظروف والملابسات (¬7) المحيطة بالسؤال، كالذي في قصة إبراهيم عليه السلام مع الملائكة، حين قدَّم لهم العجل السمين الذي شواه، فقال حاثًا لهم على الأكل بأسلوب الاستفهام التحضيضي {ألاَ تأكُلونَ} (¬8)؟ وقيل إنه قال ذلك مستنكرًا عليهم (¬9)، والأول هو الوجه. ولم يكن منهم جواب باللفظ، بل كان جوابهم بالحال، وهي امتناعهم عن الأكل، ولهذا قال سبحانه بعد ذلك: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} (¬10)، لأن في أكل الضيف الطعام أمنةً، وفي امتناعه وحشة موجبة لظنّ الشرّ (¬11)، فطمأنوه بعد أن عرفوا
¬__________
(¬1) سورة البقرة /259.
(¬2) مدارك التنزيل 1/ 202.
(¬3) روح المعاني 3/ 22.
(¬4) مجمع البيان 2/ 370.
(¬5) روح المعاني 3/ 22.
(¬6) من بلاغة النظم العربي 1/ 229.
(¬7) ظاهرة الحذف في الدرس اللغوي /116.
(¬8) سورة الذاريات /27.
(¬9) معاني القرآن وإعرابه 5/ 55.
(¬10) سورة الذاريات /28.
(¬11) روح المعاني 27/ 12.