ومن هذا اللون، قولُهُ عظُم شانُه، مصوِّرًا ما دار من حوار بين أصحاب اليمين والمجرمين، إذ يسألُ أصحابُ اليمين المجرمين: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (¬1)، فيأتي الجوابُ من المجرمين مبيِّنًا ومفصِّلاً أسباب ما أوقعهم في النار. وأوَّلُها تركُهم الصلاةَ وعدم أدائها، فقد {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (¬2)، فبدأ التعبير بها، وقدَّمها على غيرها. وفي التقديم دلالةٌ على العناية بالمقدَّمِ، والاهتمام بهِ (¬3)، ثُمَّ إنَّ فيه تنبيهًا للمخاطبِ على الأمر المُقدَّم، وتأكيدًا للكلامِ (¬4). فضلاً عن أنَّ ذكرَ هذا السبب فيه ((دلالةٌ على أنَّ الإخلالَ بالواجبِ يستحقُّ به الذَّمَّ والعقابَ؛ لأنهم علَّقُوا استحقاقَهم العقابَ بالإخلال في الصلاةِ)) (¬5).
ثُمَّ إنَّهم أردفوا هذا السببَ بآخر، فقالوا: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} (¬6)، فعدمُ إخراجهم الزكاة الواجبة عليهم، ودفعها إلى المساكين كان من أسباب دخولهم النارَ. ثُمَّ زادوا في الأسباب فقالوا: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} (¬7)، والخوضُ هو ((الشروعُ في الباطل وما لا ينبغي)) (¬8). وقد استعمل في التعبير القرآني فيما يُذمُّ الشروع فيه كثيرًا (¬9).
وختموا الأسباب بأعظمها فقالوا: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} (¬10)، وقد أخَّروا هذا السبب، لأنهم ((أرادوا أنهم بعد ذلك كلِّهِ كانوا مُكذِّبين بيوم الدين، تعظيما للتكذيب)) (¬11). ومن ثَمَّ استحقَّ هؤلاء دخولَ النار والخلود فيها لهذه الأسباب مجتمعة أو لطائفة منها (¬12).
ويُلحظُ هنا أنَّ السؤال كان بأداة الاستفهام (ما)، وهي أوسعُ معنى من (مَن)، لأنها ((يُسألُ بها عن كلِّ شيء)) (¬13)، من حيثُ إنَّها تُستعملُ للاستفهام عن صفةِ من يعقل وذوات ما لا يعقل، فأفادتِ العمومَ (¬14). وقد سيق الجوابُ متوازيًا مع السؤالِ، فجاء الجوابُ مبيّنًا على وجه العموم الأسبابَ التي قادت إلى دخولهم.
¬__________
(¬1) سورة المدثِّر / 42.
(¬2) سورة المدّثِّر / 43.
(¬3) الكتاب 1/ 56.
(¬4) البلاغة والأسلوبية / 250.
(¬5) مجمع البيان 10/ 391 - 392. وينظر: تأمُّلات في آيات القرآن 1/ 78.
(¬6) سورة المدثر/ 44.
(¬7) سورة المدثّر / 45.
(¬8) الكشاف 4/ 187.
(¬9) صفوة البيان /763.
(¬10) سورة المدثر / 46.
(¬11) الكشاف 4/ 187.
(¬12) الكشاف 4/ 187.
(¬13) روح المعاني 1/ 391.
(¬14) البرهان في علوم القرآن 1/ 183.